1340 رؤية

Aboufaza

عضو
  • aboufaza
    الخليفة سليمان بن عبد الملك و التابعي سلمة بن دينار

    في السنة السابعة والتسعين للهجرة، شدّ خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك الرحال إلى الديار المقدسة ملبِّياً نداء ربه،

    ولما فرغ سليمان بن عبد الملك من استقبال المرحِّبين به، قال لبعض جلسائه: (إن النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن، إذا لم تجد من يذكرها الفينة بعد الفينة، ويجلو عنها صدأها .

    فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: أما في المدينة رجل أدرك طائفة من صحابة رسول الله يذكِّرنا؟ فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين، ها هنا أبو حازم، فقال: ومن أبو حازم؟ قالوا: سلمة بن دينار، عالم المدينة وإمامها، وأحد التابعين الذين أدركوا عدداً من أصحاب رسول الله، فقال: ادعُوه لنا، وترّفقوا في دعوته، فذهبوا إليه، ودَعَوه، فلما أتاه رحّب به، وأدنى مجلسه، وقال له معاتباً: ما هذا الجفاء يا أبا حازم؟ فقال: وأيّ جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ قال: زارني وجوهُ الناس، ولم تَزُرْني، فقال: إنما يكون الجفاء بعد المعرفة، وأنت ما عرفتني قبل اليوم، ولا أنا رأيتك، فأيّ جفاء وقع مني، فقال الخليفة لجلسائه : أصاب الشيخ في اعتذاره، وأخطأ الخليفة في العتب عليه.

    ثم التفت إلى أبي حازم، وقال: (إن في النفس شؤوناً أحببتُ أن أفضي بها إليك يا أبا حازم، فقال: هاتها يا أمير المؤمنين، واللهُ المستعانُ،

    فقال الخليفة: يا أبا حازم, مالنا نكره الموت؟

    فقال: لأننا عَمَّرنا دنيانا وخرّبنا آخرتنا, فنكره الخروجَ من العمار إلى الخراب.

    فقال الخليفة: صدقت.

    فقال الخليفة: إذاً: فأين رحمة الله تعالى؟ فقال أبو حازم:﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة الأعراف الآية: 56]

    فقال الخليفة : ليت شعري، كيف القدوم على اللهِ جل وعز غداً؟ فقال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسِيء فكالعبد الآبق يساق إلى مولاه سوقاً.

    قال تعالى:﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [سورة الغاشية الآية: 25 - 26]

    فبكى الخليفة حتى علا نحيبُه، واشتدّ بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم, كيف لنا أن نصلح؟ قال: تَدَعُون عنكم السلطة، وتتحلّون بالمروءة،

    فقال الخليفة: وهذا المال، ما السبيل إلى تقوى الله فيه؟

    فقال أبو حازم: إذا أخذتموه بحقه، ووضعتموه في أهله، وقسمتموه بالسوية، وعدلتم فيه بين الرعية .

    فقال الخليفة: يا أبا حازم, أخبرني مَن أفضلُ الناس؟ قال: أولو المروءة والتقى، قال : ومن أعدل الناس يا أبا حازم؟ قال: كلمة حق يقولها المرء عند من يخافه، وعند من يرجوه .

    فقال الخليفة: ما أسرع الدعاء إجابة يا أبا حازم؟ قال: دعاء المحسن للمحسنين، قال الخليفة: ما أفضل الصدقة؟ قال: جُهدُ المُقِلِّ يضعه في يد البائس، من غير أن يُتبِعَه منًّا ولا أذى .

    قال الخليفة: مَن أكْيَسُ الناس يا أبا حازم؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله تعالى فعمل بها، فهو أكْيس الناس وأعقلهم، -إنسانٌ عرفً أمرَ الله فطبّقه.

    فقال الخليفة: مَن أحمق الناس؟ قال: رجل انْساق مع هوى صاحبه، وصاحبه ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره.

    قال الخليفة: هل لك أن تصحبنا يا أبا حازم، فتصيب منا، ونصيب منك؟ قال: كلا يا أمير المؤمنين, قال: ولمَ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف الممات، قال الخليفة: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم، فسكت ولم يجِبْ، أعاد عليه القول: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم, نَقْضِها لك مهما كانت، قال: حاجتي أن تنقذني من النار، وأن تدخلني الجنة, قال الخليفة: ذلك ليس من شأني يا أبا حازم، قال: أبو حازم مالي من حاجة سواهما يا أمير المؤمنين.

    قال: يا أبا حازم, ادعُ لي، قال: اللهم إنْ كان عبدُك سليمان من أوليائك, فيسِّره إلى خيرَي الدنيا والآخرة، وإنْ كان من أعدائك فأصلحه، واهدِهِ إلى ما تحب وترضى، فقال أحد الحاضرين: بئس ما قلت منذ دخلتَ على أمير المؤمنين، فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله، وآذيته بهذا الكلام، فقال أبو حازم: بل بئس ما قلت أنت، فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق بأن يقولوا كلمة الحق.

    ثم التفت إلى الخليفة، وقال: (يا أمير المؤمنين، إن الذين مضوا قبلنا من الأمم الخالية، ظلُّوا في خير وعافية، ما دام أمراؤهم يأتون علمائهم رغبة بما عندهم، ثم وُجِد قوم من أراذل الناس تعلَّموا العلم، وأَتَوْا به الأمراء, يريدون أن ينالوا به شيئاً من عرض الدنيا، فاستغنَتِ الأمراء عن العلماء، فتَعِسوا ونَكَثُوا، وسَقطوا من عين الله عز وجل،

    فقال الخليفة: صدقتَ، زدني من موعظتك يا أبا حازم، فما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فمه منك، فقال: إنْ كنتَ من أهل الاستجابة, فقد قلتُ لك ما فيه الكفاية، وإنْ لم تكن من أهلها, فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر، فقال الخليفة: عزمتُ عليك يا أبا حازم أنْ توصيني، قال: نعم أوصيك وأوجز، عظِّم ربَّك عز وجل, ونزِّههُ أن يراك حيث نهاك، وأن يَفْقِدَك حيث أمرك، ثمّ سلم وانصرف، فقال له الخليفة: جزاك الله خيراً من عالم ناصح .

    فما كاد أبو حازم يبلغ بيته حتى وجد أن الأمير قد بعث إليه بصرة مُلأتْ دنانير، وكتب إليه يقول: أَنْفقها ولك مثلها كثيرٌ عندي ، فرَدَّها، وكتب إليه, يقول: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً، ورَدِّي عليك باطلاً، فو اللهِ ما أرضى ذلك يا أمير المؤمنين لك، فكيف أرضاه لنفسي؟ يا أمير المؤمنين إنْ كانت هذه الدنانير لقاءَ حديثي لك, فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه الدنانير، وإن كانت حقاً لي من بيت مال المسلمين, فهل سوَّيتَ بيني وبين الناس جميعاً في هذا الحق؟

      المصدر : سيرة التابعين الأجلاء

      التابعي : سلمة بن دينار  لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي


    • july 5th, 2013 13:58 من طرف aboufaza
    • بدون تعليق